جݦيلة هي الحياة, زرقة سقفها، خضرة أرضها، كل ما احتوته الحياة بين جدرانها، ما تمكن إلا أن عشقها، تعلق بها، أرتعب حين فكر في أي شي يأخذه بعيدا عنها. تموت، تحيا أرواح على أسرتها، يبقى أملنا بها معلقا عالياً ، كلما تدحرج للأسفل، تأملناها مجدداً، فازداد تعلقنا بها من جديد.
كثيرة هي محطات الحياة، خاصة مواقف الانتظار.. الجالسين، الواقفين، جميعهم، قليل منهم يملكونه، اغلبهم أضاعوه، فتشبثو في تلك المواقف حتى آخر رمق، على أمل أن يجدوه يوماً. طويل هو الانتظار، خاصة حين نقضي معظم أيامنا ننتظر، ثم ننتظر، فننتظر، لا يسعنا سوى الانتظار.
في إحدى تللك المواقف التي مررت بها, كان الجو حار، العرق يتصبب، الوجوه متوترة .. تك تك تك .. حان موعد قدوم الحافلة، هب الجميع متزاحمين إلى الأبواب، ما أن نظرو بداخلها حتى تنافروا، وعادو لأماكن جلوسهم بهدوء، خيبة أمل تعتصر ملامحهم، لم يجدوا ما أضاعوه.
نادرٌ من وجدو ما أضاعوه.
أيها المنتظرين: هل من الممكن أن يكون المانع نظركم؟ أم الأماكن التي بحثتم فيها؟
ما تروه ليس كله حقيقيا، من المحتمل أن يكون ما فقدتموه نصب أعينكم، تعجزون عن الإحساس به. قليلا منكم يجازفون بركوب الحافلة، البحث في موقف آخر، خوفكم من المجازفة، خسارة شي لا تملكونه! يقيدكم، يخنقكم، يمنعكم دوما من انتهاز الفرصة والتقدم خطوة.
جميل هو مراقبة الأشخاص من حولنا, حين نرغب فهمهم, التعلم من أخطائهم, خاصة اذا اجتمعنا في مكان ووقت مشترك. إلا هنا, لم يدفعكم اجتماعكم للتعارف, لم يقنعكم بممسارة طقوس افشاء الشكوى, لم يكسر الحواجز المحصنة حول إحياء نبض عقولكم, قلوبكم, حواسكم.
كان ردهم: يا لسخرية هذا الجمال، الأجمل أن نترك لهم مساحة فهم أنفسهم، أن ننشغل بفهم عقولنا، قلوبنا، غاياتنا، طموحنا، احتياجاتنا، لعلنا نجد بينها ما أضعناه، أو ونيساً يجمل سنيناً نقضيها في مواقف الانتظار.
بؤرتا عيناي مارست التوسع إثر الصدمة, حتى تشققت, الجميع يهذي أمامي, نتيجة وباء حمى جمد خلاياهم, أفسد قدراتهم العقلية, أنهى صلاحية قواهم العاطفية, ملأهم بفراغ بات يفيض بمساحات كلام متصدعة.
مناقشات كثيرة تناولها موقف الانتظار أمام الحافلة معي, حتى غادرت الحافلة الموقف.
تجمد مدى ناظري امام حالهم بعد تحرك الحافلة التي فاتتني: وجوه شاحبة، أماني مبهمة، مشاعر مجردة، صمتٌ خانق، ويستمر بحثهم.
في وضح النهار, بعد تحرك الحافلة, قطع تجمد مدى نظري خطوات قادمة، سريعة، مُخيفة، مُفزعة. أصوات الخطوات اقتربت، تركيز المنتظرين تشتت، أعينهم تصدعت، صرخو: صوتٌ يقترب!
أمامهُم، بينهُم، مرَ صوتُ الخطوات، اصطدَم بعضها بهم.
محاولة فهمِ ما حصل، قطعَتها جرأةٌ دفعت عقلي الجاهلُ للسؤال:
ما ذاكَ الصوتُ الذي قطع أنفاسي؟ كيف لم نرى مصدر صوت مرَ بجانبنا, اصطدم بنا؟
أحدهم: الأرواح؛مصلطح يتعلق بالحياة الأخرى،كل يوم ترعب صمت أجوائنا، تحاول إخافتنا، إفزاعنا، اهباط عزيمتنا.
عقلي الجاهل: لماذا؟
أحدهم: لا يجوز أن نتحدث عنهم، مثلنا كانوا، انتظرو، ثم انتظرو، فانتظرو، ما وسعهم إلا الانتظار، باتوا جثث هامدة، ترعب أرواحهم كل ما في المكان.
الحقيقة صعقتني، رغبة الأرواح بدفع الجميع خارج محطات انتظار شعار الاستمرار فيها امتهان العزلةٌ, الكآبة, اليأسٌ,الشيخوخة, الموتٌ أثناء الحياة.
حان موعد قدوم الحافلة, فضاعت بين لهثة أنفاس قلبي الحروف, وخانت الكلمات أدبي, جررت خجلي الذي غمرني, وصعدت.
ضجة المحرك, فوضى الراكبين, لم تتمكن من إيقاظ ذاتي الذي استمر بالنظر لمن بدأت ملامحهم تختفي مع بعد المسافة.
صمت قتلني, كما قتلهم حين غادرتهم بدون وداع. حقيقة كون تلك المرة الأولى التي أرى اولئك المنتظرين, لم تخدر ألمي, لم تخفف خجلي, لم تساعدني على معرفة مكان الثقب في جسدي, فبسببه مخزون صبري بدأ ينفذ.
سؤال تخاطر معي أثناء غفوتي الأولى بعد تأنيب الضمير الذي أغرقني.
توقفنا امام لافتة " قف جانبا, في الحافلة راكب تخلص من الحياة ". شلت حركة جفوني الرعبة, أثار الخوف ضميري المتأنب, وتوقفنا.
صعدت تلك المرأة, لشدة تجهمها ساورني الشك: أيعقل أن تكون أنثى؟ نظرت إلي, أطلقت بداخلي حرب وخزٍ من الإبر, وكأنها سمعت ما بادر عقلي بالتساؤل عنه. مرت بجانبني رائحتها النتنة, وإذ بها تتوقف أمام شاب, لم يتجاوز العشرين من عمره.
تعجبت كيف لم أراه حين صعدت الحافلة, حضور قوي, طول متوسط, كتفان عريضتان, عينان زرقاويتين واسعتان, ملامح حادة, ونظرة ثاقبة. كم تأملته وتأملت ذلك الغموض الذي يغيم فوق حاجبيه, كم أثار فضولي ذلك الحزن المدفون بين زوايا ابتسامته المصطنعة.
استعدت رشدي, من ذلك الراكب؟ إذ بذلك الذي سلب اهتمامي وفضولي يقف, لتصفد يداه بأشواك خشنة, شوهت ملامح قوة يديه على الفور. سار بجانب تلك المتجهمة الى خارج الحافلة. الفضول قتلني, أرداني بمئة طلقة في عقلي, دفعني عن حد الصمت, ونطق بلساني: لماذا؟ أجابت ملامحه, دون أن تتحرك شفاهه, حين نزعت عنه قناعه الشاب, فظهر قناعه الحقيقي. رجل هرم تدرج لونه بين الأزرق والأحمر. جثة غريقة الأحزان, الهموم, الشي المفقود, تسير هائمة بين الأحياء. ما فائدة نبض القلب حين تغادر الروح الجسد؟
تلاصق جفوني اخترقه ضوء أبيض قوي, هلع تمكن مني, وعلامات تساؤل أكبر من حجم غرفتي تراودني. دقات قلبي متسارعة, عيوني متأرقة, ملامحي متجعدة, حواسي مرتجفة. قبلت جبيني أمي, هدأت من هلعِ. كم تكون الأحلام قاسية جدا أحيانا, حين يبيدك احساسك العالي بتفاصيلها أثناء ممارسة طقوسها.
فضحت رجفة يداي ملعقة الغداء, حدق الجميع بي على الطاولة, بدأو تناول طعامهم. انسحبت ظلالي بهدوء الى العلية. الحب الذي أكنه لهذا المكان لا تستطيع الحروف تسطيره, ليس لمعلقات الأدب قدرة على تجسيده بدلالة بلاغية أو تشبيه.
بدأت أسرد ذلك الحلم الغريب للورق والأقلام, كتبته عدة مرات, استخدمت الوانا عديدة في كل مرة, لكن باتت محاولة سردي بالفشل.
في كل مرة أكتبه, أتذكر حين أقرأه شيئا ما نسيت أن أذكره, حتى بات من المستحيل رصد زحمة أحداث هذا الحلم في بضعة اوراق وقلم.
استلقيت على الأرضية الخشبية, أمعنت النظر في النافذة, استرقت النظر لسماء تمدني ببعض الصفاء, تشغلني عن فهم كثير من الأشياء, قدري أن لا أفهمها.
نعم! كيف كنت عمياء لهذه الدرجة! كيف فاتني شي بهذه البساطة؟!
الفهم, القدرة التي استبعدناها من ذاتنا, عواطفنا, عقولنا.
عجزهم عن لمس الحقيقة, فتح أعينهم, استقبال الاحتمالات.
تجاهلهم قدرتهم على تحليل ما حدث, تصنيف الفوائد والأخطاء, الاستفادة من الاثنين, كلها عمليات تبدأ وتستمر وتنتهي بالفهم.
حين نتوقف عن محاولة فهم ما يحصل حولنا, نصبح كتمثال حجري, الفرق بيننا وبينه, أن لسنا محط أنظار أحد سوى أخطائنا, همومنا, قسوتنا على أنفسنا.
النية الصادقة لفهم الأشياء, الصادقة فقط ! هي الشي الضائع, الذي تسبب بموتهم جميعا دون حراك.